فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ}.
الأظهر أن الفاء فصيحة ناشئة عن جملة: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم} [الأنفال: 12] تفصح عن مقدر قبلها شرط أو غيره والأكثر أن يكون شرطًا فتكون رابطة لجوابه، والتقدير هنا إذا علمتم أن الله أوحى إلى الملائكة بضرب أعناق المشركين وقَطْع إيديهم فلَمْ تقتلوهم أنتم ولكن الله قتلهم أي فقد تبين أنكم لم تقتلوهم أنتم، وإلى هذا يشير كلام صاحب الكشاف هنا وتبعه صاحب المفتاح في آخر باب النهي.
ويجوز أن تكون الفاء عاطفة على جملة: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذي كفروا زحفًا فلا تولوهم الأدبار} [الأنفال: 15] أي يتفرع على النهي عن أن تولوا المشركين الأدبار تنبيهكم إلى أن الله هو الذي دفع المشركين عنكم وأنتم أقل منهم عَددا وعُدة، والتفريع بالفاء تفريع العلة على المعلول، فإن كون قتل المشركين ورميهم حاصلًا من الله لأمن المسلمين يفيد تعليلًا وتوجيهًا لنهيهم عن أن يولوهم الأدبار.
ولأَمْرهم الصبر والثبات وهو تعريض بضمان تأييد الله إياهم إن امتثلوا لقوله: {واصبروا إن الله مع الصابرين} [الأنفال: 46] فإنهم إذا امتثلوا ما أمرهم الله كان الله ناصرهم، وذلك يؤكد الوعيد على تولية الأدبار، لأنه يقطع عذر المتولين والفارين، ولذلك قال الله تعالى في وقعة أحد: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمْعاننِ إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا} [آل عمران: 155].
وإذ قد تضمنت الجملة إخبارًا عن حالة أفعال فعلها المخاطبون، كان المقصود اعلامهم بنفي ما يظنونه من أن حصول قتل المشركين يوم بدر كان بأسباب ضَرب سيوف المسلمين، فأنباهم أن تلك السيوف ما كان يحق لها أن تؤثر ذلك التأثير المصيب المطرد العام الذي حل بإبطال ذوي شجاعة، وذوي شوكة وشِكّة، وإنما كان ضرب سيوف المسلمين صوريًا، أكرم الله المسلمين بمقارنته فعلَ الله تعالى الخارقَ للعادة، فالمنفي هو الضرب الكائنُ سببَ القتل في العادة، وبذلك كان القتل الحاصل يومئذٍ معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم وكرامة لأصحابه، وليس المنفي تأثير الضرب في نفس الأمر بناء على القضاء والقدر، لأنه لو كان ذلك لم يكن للقتل الحاصل يوم بدر مزية على أي قتل يقع بالحق أو بالباطل، في جاهلية أو إسلام، وذلك سياق الآية الذي هو تكريم المسلمين وتعليل نهيهم عن الفرار إذا لقوا.
وليس السياق لتعليم العقيدة الحق.
وأصل الخبر المنفي أن يدل على انتفاء صدور المسند عن المسند إليه، لا أن يدل على انتفاء وقوع المسند أصلًا فلذلك صح النفي في قوله: {فلم تقتلوهم} مع كون القتل حاصلًا، وإنما المنفي كونه صادرًا عن أسبابهم.
ووجه الاستدراك المفاد بـ {لكن} أن الخبر نفى أن يكون القتل الواقع صادرًا عن المخاطبين فكانَ السامعُ بحيث يتطلب أكان القتلُ حقيقة أم هو دون القتل، ومَن كان فاعلًا له، فاحتيج إلى الاستدراك بقوله: {ولكن الله قتلهم}.
وقدم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله: {ولكن الله قتلهم} دون أن يقال ولكن قتلهم الله، لمجرد الاهتمام لا الاختصاص، لأن نفي اعتقاد المخاطبين أنهم القاتلون قد حصل من جملة النفي، فصار المخاطبون متطلبين لمعرفة فاعل قتل المشركين فكان مهمًّا عندهم تعجيل العلم به.
استطراد بذكر تأييد إلهي آخرَ لم يُجر له ذكر في الكلام السابق، وهو إشارة إلى ما ذكره المفسرون وابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن حرّض المؤمنين على القتال يوم بدر أتاه جبريل فقال خذ قُبْضة من تراب فارمهم بها فأخذ حفنة من الحصاء فاستقبل بها المشركين ثم قال: «شاهت الوجوه» ثم نفحهم بها ثم أمر أصحابه فقال: شُدوا فكانت الهزيمة على المشركين، وقال غيره لم يبق مشرك إلا أصابه شيء من الحصا في عينيه فشغل بعينيه فانهزموا، فلكون الرمي قصة مشهورة بينهم حذف مفعول الرمي في المواضع الثلاثة، وهذا أصح الروايات، والمراد بالرمي رمي الحصباء في وجوه المشركين يوم بدر، وفيه روايات أخرى لا تناسب مهيع السورة، فالخطاب في قوله: {رميت} للنبيء صلى الله عليه وسلم والرمي حقيقته إلقاء شيء أمسكتْه اليد، ويطلق الرمي على الإصابة بسوء من فِعل أو قول كما في قول النابغة:
رمَى الله في تلك الأكففِ الكَوانع

أي أصابها بما يُشلها وقول جميل:
رمَى الله في عيني بُثينة بالقذى ** وفي الغُر من أنيابها بالقوازح

وقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} [النور: 6] فيجوز أن يكون {رميتَ} الأول وقولَه: {ولكن الله رمى} مستعملين في معناهما المجازي أي وما أصبت أعينَهم بالقذى ولكن الله أصابها به لأنها إصابة خارقة للعادة فهي معجزة للنبيء صلى الله عليه وسلم وكرامة لأهل بدر فنفيت عن الرمي المعتاد وأسندت إلى الله لأنها بتقدير خفي من الله، ويكون قوله: {إذ رميت} مستعملًا في معناه الحقيقي، وفي القرطبي عن ثعلب أن المعنى وما رميتَ الفزع والرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصباء فانهزموا، وفيه عن أبي عبيدة أن (رميتَ) الأول والثاني، و(رمى) مستعملة في معانيها الحقيقية، وهو ما درج عليه جمهور المفسرين وجعلوا المنفي هو الرمي الحقيقي والمثبت في قوله: {إذ رميت} هو الرمي المجازي وجعله السكاكي من الحقيقة والمجاز العقليين فجعل ما رميت نفيًا للرمي الحقيقي وجعل (إذ رميت) للرمي المجازي.
وقوله: {إذ رميت} زيادة تقييد للرمي وأنه الرمي المعروف المشهور، وإنما احتيج إليه في هذا الخبر ولم يؤت بمثله في قوله: {فلم تَقتلوهم} لأن القتل لما كانت له أسباب كثيرة كان اختصاص سيوف المسلمين بتأثيره غير مشاهد، وكان من المعلوم أن الموت قد يحصل من غير فعل فاعل غيرِ الله، لم يكن نفي ذلك التأثير، وإسناد حصوله إلى مجرد فعل الله محتاجًا إلى التأكيد بخلاف كون رمي الحصى الحاصل بيد الرسول صلى الله عليه وسلم حاصلًا منه، فإن ذلك أمر مشاهد لا يقبل الاحتمال، فاحتيج في نفيه إلى التأكيد إبطالًا لاحتمال المجاز في النفي بأن يُحمل على نفي رمي كامل، فإن العرب قد ينفون الفعل ومرادهم نفي كماله حتى قد يَجمعون بين الشيء وإثباته أو نفي ضده بهذا الاعتبار، كقول عباس بن مرداس:
فلم أعْطَ شيئًا ولم أمْنع

أي شيئًا مجديًا، فدل قوله: {إذ رميت} على أن المراد بالنفي في قوله: {وما رميت} هو الرمي بمعنى أثره وحصول المقصود منه، وليس المراد نفي وقوع الرمي مثل المراد في قوله: {فلم تقتلوهم} لأن الرمي واقع من يد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن المراد نفي تأثيره، فإن المقصود من ذلك الرمي إصابة عيون أهل جيش المشركين وما كان ذلك بالذي يحصل برمي اليد، لأن أثر رمي البشر لا يبلغ أثره مبلغ تلك الرمية، فلما ظهر من أثرها ما عم الجيش كلهم، عُلم انتفاء أن تكون تلك الرمية مدفوعة بيد مخلوق، ولكنها مدفوعة بقدرة الخالق الخارجة عن الحد المتعارف، وأن المراد بإثبات الرمي في قوله: {ولكن الله رمى} كالقول في {ولكن الله قتلهم}.
وقرأ نافع والجمهور {ولكن} بتشديد النون في الموضعين وقرأه ابن عامر، وحمزة، والكسائي بسكون النون فيهما.
عطف على محذوف يؤذن به قوله: {فلم تقتلوهم} الآية وقوله: {وما رميت} الآية.
فإن قتلهم المشركين وإصابة أعينهم كانا الغرض هزم المشركين فهو العلة الأصلية، وله علة أخرى وهي أن يبلي الله المؤمنين بلاءً حسنًا أي يعطيهم عطاءً حسنًا يشكرونه عليه، فيظهر ما يدل عن قيامهم بشكره مما تختبر به طويتهم لمن لا يعرفها، وهذا العطاء هو النصر والغنيمة في الدنيا والجنةُ في الآخرة.
واعلم أن أصل مادة هذا الفعل هي البلاء وجاء منه الإبلاء بالهمز وتصريفُ هذا الفعل أغفله الراغب في المفردات ومن رأيتُ من المفسرين، وهو مضارع أبلاه إذا أحسن إليه مشتق من البلاء والبلوى الذي أصله الاختيار ثم أطلق على إصابة أحد أحدًا بشيء يظهر به مقدار تأثره، والغالب أن الإصابة بشرّ، ثم توسع فيه فأطلق على ما يشمل الإصابة بخير قال تعالى: {ونبلُوكم بالشر والخير فتنةً} [الأنبياء: 35] وهو إطلاق كنائي وشاع ذلك الإطلاق الكنائي حتى صار بمنزلة المعنى الصريح، وبقي الفعل المجرد صالحًا للإصابة بالشر والخير، واستعملوا أبلاه مهموز أي أصابةُ بخير قال ابن قتيبة: يقال من الخير أبليته إبلاء ومن الشر بلوته أبلوه بلاءً.
قلت: جعلوا الهمزة فيه دالة على الإزالة أي إزالة البلاء الذي غلب في إصابة الشر ولهذا قال تعالى: {بلاء حسنًا} وهو مفعول مطلق لفعل يُبليَ موكد له، لأن فعل يبلي دال على بلاء حسن وضمير {منه} عائد إلى اسم الجلالة و(من) الابتداء المجازي لتشريف ذلك الإبلاء ويجوز عود الضمير إلى المذكور من القتل والرمي ويكون (من) للتعليل والسببية.
وقوله: {إن الله سميع عليم} تذييل للكلام و(إن) هذا مقيدة للتعليل والربط أي فعل ذلك لأنه سميع عليم، فقد سمع دعاء المؤمنين واستغاثتهم وعلم أنهم لعنايته ونصره فقبل دعاءهم ونصرهم. اهـ.

.قال الشعراوي:

قول الحق تبارك تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17].
مثل قوله تعالى في آية أخرى: {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} [آل عمران: 126].
وفي هذا ترتيب من الحق تبارك وتعالى للمؤمنين، فكما أن النصر من عند الله عز وجل لمن أخذ بالأسباب، كذلك قتل الكافرين كان بإرادته سبحانه لمن كفر ووقع هذا القتل بيد المؤمن، فالمؤمن يضرب بالسيف، وينجرح العدو وينزف، لكن ألم تر جريحًا لم يمت، وألم تر غير مجروح يموت؟. إذن فالقتل هو من الله.
سبحان ربي إن أرا ** د فلا مرد له يفوت

كم من جريح لا يمو ** ت وغير مجروح يموت

إذن فالمؤمنون حين حاربوا أهل الكفر. إنما يجرحونهم فقط، أما الموت فهو واقع بهم من الله سبحانه وتعالى.
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17].
ولقائل أن يقول: إن الحق تبارك وتعالى قال في موقع آخر: {قاتلوهم يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14].
إذن فللمؤمن المقاتل مظهرية القتال، وللحق حقيقة القتل. ولذلك يأتي سبحانه وتعالى بعد ذلك بقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 17].
وفي هذا القول الكريم عطاء لشيء كان مجهولا لهم بشيء عُلِم لهم، وبذلك قاس غير معلوم بمعلوم. وعرفنا من قبل أنك إذا رأيت حدثاَ أو فعلًا منفيًا ومثبتا له في وقت واحد، قد يبدو لك أن في الكلام تناقضًا. وهنا- على سبيل المثال- ينفي الحق الحدث في قوله: {وما رميت} وثبته في قوله: {إذ رميت}. والرمي معروف. والفاعل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف ينفي عنه الفعل أولًا، ويثبته له ثانيًا؟.
ونعلم أن القائل هو رب حكيم، وأسلوبه على أعلى ما يكون. وحتى نفهم هذه المسألة، نحن نعرف أن كل حدث له هيئة يقع عليها وله غاية ينتهي إليها، فمرة يوجد الحدث، لكن الغاية منه لا تتحقق، مثلما يقول الوالد لولده: لقد قرب الامتحان فاجلس في حجرتك وذاكر. ويجلس الولد في حجرته وأمامه كتاب ما يقلب صفحاته، وبعد ساعة يدخل الأب حجرة ابنه ليقول: هات كتابك لأسألك فيما ذاكرته. ويسأل الأب ابنه سؤالًا ثم ثانيًا فلا يعرف الابن الإجابة عن الأسئلة، فيقول الأب: ذاكرت وما ذاكرت. أي كأنه لم يذاكر، بل فعل الفعل شكليًّا، بأن جلس إلى المذاكرة، ولم يؤد ما عليه لأن أثر الفعل وهو المذاكرة لم يتحقق.
وفي غزوة بدر استنجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بربه واستغاث ودعا الله ورفع يديه فقال: «يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدًا، فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم» فأخذ صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم فما من المشركين أحد إلاّ أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين.